أجريت منذ بضعة أيام حواراً ممتعا مع أحد الاصدقاء الهولنديين الذين تشرفت بمعرفتهم حديثا و حين سؤالي عن التخصص الذي يدرسه هذا الشخص ، أجاب التاريخ ! رحم الله الرصافي الذي أردد دائما أبياته التي تقول :
و ما كتب التاريخ في كل ما روت
لقرائها الا حديث ملفق
نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا
فكيف بأمر الغابرين نصدق
ترجمت لصديقي هذه الابيات التي أضحكته و قال لي : لا أعلم المنظار الذي ينظر المرحوم الرصافي منه الي الأمور و الي التاريخ تحديدا ، الا ان التاريخ بالنسبة لنا هو العلم الذي يقوم بدراسة الزمن و تأثيره علي الانسان و كيف استطاع الانسان أن يتكيف و يتعامل مع هذا الزمن !
دعتني هذه الاجابة الي التفكير ملياً ليس بخصوص التاريخ تحديداً و الذي كان محور الحديث الشيق المطول الذي دار بيننا ، انما جعلتني أتساءل عن كمية المفاهيم المغلوطة التي لدي بخصوص الكثير من الاشياء المحيطة بي و التي تفتقر بطبيعة الحال الي اي تحليل منطقي بل غالبا ما تكون نتاج امور أو مواقف و أحكام شخصية بالاحري ، ما يحجب الكثير من ايجابيات هذه العلوم و المعارف كالتاريخ علي سبيل المثال لا الحصر و الذي تغيرت نظرتي اليه بعد تلك الكلمات الجميلة المدروسه و المختارة بعناية .
كأحوازي ، أدرك جيداً نظرة الكثير من الآباء و الأهالي الي العلوم الانسانية كعلم الإجتماع أو السياسة أو الحقوق أو علم الايدولوجيا و تفضيلهم للعلوم الطبيعية كمجال دراسة بالنسبة لأبناءهم حتي و ان كان الابناء لا يريدون ذلك ، و ذلك بسبب مشاهدتهم للمسلسلات الخليجية التي يبدو فيها جناب الدكتور كويتيا بهي الطلة و صاحب سكسوكة خيالية يتم تحديدها في صالون حلاقة يتقاضي دينار كويتي علي أقل تقدير و هي عملة تساوي سلة العملات العالمية معا مما يعكس رفاها اقتصاديا يحلم به جميع أبناء الدول المضطهدة أو المحتلة .
المحزن في الأمر هو بأنه هؤلاء الآباء يتناسون بأن المسألة ليست مسألة دراسة أو حتي اقتصاد متهالك أو حتي بطالة أبداً، انما الموضوع هو موضوع احتلال ، فهذا الأحوازي الذي يظن بأن همومه ستنتهي اذا ما حصل علي شهادة الطب ، مخطئ تماما لأن الاولوية ستكون لتوظيف المستوطن الفارسي لا لصاحب الارض و الحق ، و اذا ما هاجر هذا الدكتور الي دول الخليج ، فإن معاملته ستكون دون المستوي الانساني لأنه يحمل اوراقا ايرانية لا خليجية او اروبية و اهلنا في دول الخليج العربي ادري بهذه الامور ، ناهيك عما اذا حاول هذا الانسان الهجرة الي اروبا و البيروقراطية الاروبية التي ستجعله يحمل شهادة تمريض بعد التصديقات و المعادلات مع النظام الاروبي في الطب .
لا أقصد في كل ما سبق ذكره الي التحبيط من المعنويات و احباط العزائم أبدا فالقلم و الكلمة هما أقوي سلاحان نستطيع مواجهة المحتل بهماً، انما و باعتقادي ، فإن المشكلة تكمن في سبل المقاومة بالعلم و الكلمة ، فمهما كانت دراسة الطب أو الهندسة أو الخ من العلوم التجريبية أو التجريدية او الطبيعية مفيدة ، الا انها لا ترتقي لتكون عاملاً فاعلا و مؤثراً في محاربة المحتل كما هي الحال مع العلوم الانسانية ، فالطب و الهندسة قد يكونا ذوا نفع في دولة مستقلة لديها نقص في الكوادر الطبية او الهندسية ، لا في دولة محتله لا توجد فيها مستشفيات لا بل أصبحت مرمي للنفايات التي تأتي من كل المحافظات الايرانية !
أما عن العلوم الانسانية ، فهي أعظم ما يخافه المستبد فعالم التاريخ و بطبيعة الحال ادري بتاريخ أرضه و تاريخ الاحتلال من الطبيب أو المهندس ، و هو سيكتشف ذلك بحكم نظرته الاكاديمية البعيدة عن العقيدة و الانتماءات العرقية أو الدينية أو الطائفية و نفس الحال بالنسبة لعالم الاجتماع أو الحقوق أو الفلسفة فهؤلاء يستطيعون و بحوارات بسيطة كشف زيف المحتل و تنوير الجماهير أو حتي علي الأقل ايجاد الشك و التساءل لدي الإمعات الذين هم ادني ثقافة و فكرا ما يدفعهم الي الانسياق وراء المحتل كالأنعام .
—–
أول ما أوحي الي أشرف الخلق ، العربي محمد ابن عبدالله عليه أفضل الصلاة و السلام ، لم يكن فجّر ، أو كفّر أو الطم أو طبّر أو اي شئ يطرأ علي مخيلاتكم ، إنما كان كلمة واحدة ، هي إقرا. أسميت هذه المقالة بإقرا علما بأن الاسم خال من المضمون و ذلك تيمنا بأعظم كلمة نزلت علي نبي من وجهة نظري لأبين مدي أهمية الكلمة و العلم و الفكر في مواجهة الظلم .